إباحة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
---
المقدمة
يُعدّ المولد النبوي الشريف من أعظم المناسبات الإسلامية التي تُظهر فيها الأمة الفرح بمولد سيد الكائنات محمد ﷺ، وتجدد فيها محبته، وتستحضر سيرته العطرة التي أنارت البشرية. وقد اختلف العلماء في حكم هذا الاحتفال بين مجيز ومانع، لكن جمهور العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم ذهبوا إلى جوازه بل استحبابه إذا خلا من المنكرات، لما فيه من تعظيم النبي ﷺ وشكر الله على نعمة بعثته.
---
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم
1. قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].
أجمع المفسرون أن فضل الله هو القرآن ورحمته هو النبي ﷺ. فإذا أمرنا الله بالفرح برحمته، فالاحتفال بمولده الشريف يدخل دخولًا أوليًا في هذا المعنى.
2. وقال سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5].
أي أيام إنعامه على عباده. ولا شك أن يوم مولد النبي ﷺ ويوم بعثته من أعظم أيام الله على هذه الأمة.
---
ثانياً: الأدلة من السنة النبوية
1. عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ» (رواه مسلم).
وجه الاستدلال: أن النبي ﷺ شكر الله على يوم مولده بالصيام، فيُشرع لأمته أن تشكر الله بالاحتفال المشروع.
2. عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما قدم النبي ﷺ المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فقال: «مَا هَذَا؟» قالوا: يوم نجّى الله فيه موسى. فقال: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» (رواه البخاري).
وجه الاستدلال: أن النبي ﷺ أقرّ تخصيص يوم بنعمة إلهية، وهذا دليل على مشروعية تخصيص يوم المولد للاحتفاء بنعمة بعثة الرسول ﷺ.
---
ثالثاً: أقوال العلماء في جواز المولد
الحافظ ابن حجر العسقلاني: "أصل عمل المولد بدعة، لكنها تشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كان بدعة حسنة."
الإمام السيوطي: "أصل عمل المولد – الذي هو اجتماع الناس وقراءة القرآن ورواية الأخبار الواردة في مولده – بدعة حسنة يُثاب عليها فاعلها."
الإمام ابن الحاج المالكي: "من تعظيم النبي ﷺ إظهار الفرح بمولده الشريف في أي يوم من الأيام، لا سيما في شهر ربيع الأول."
الإمام القسطلاني: "فرحم الله امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا ليكون أشد سببًا على كسبه للبركات."
---
رابعاً: الحكمة من الاحتفال بالمولد
1. تجديد محبة النبي ﷺ في القلوب.
2. شكر الله على نعمة بعثته ﷺ.
3. تعليم الناشئة سيرة النبي ﷺ وربطهم بها.
4. اجتماع المسلمين على الذكر والإنشاد والتعاون على البر.
---
خامساً: الرد على المنكرين
زعم بعض المتشددين أن المولد بدعة ضلالة، لكن العلماء فرّقوا بين البدعة الحسنة والسيئة. فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه".
والاحتفال بالمولد ليس عبادة جديدة، بل هو وسيلة لشكر الله وذكر النبي ﷺ، مما يندرج تحت عمومات الشرع.
---
سادساً: الاحتفالات بالمولد النبوي عبر التاريخ
الفاطميون: أول من نظّم احتفالات عامة بالمولد في مصر (362هـ).
الملك المظفر أبو سعيد كوكبري في أربيل: كان يقيم احتفالًا عظيمًا حضره العلماء والفقهاء، ذكره ابن كثير وقال: "كان يصرف فيه ثلاثمائة ألف دينار."
المماليك: جعلوا المولد مناسبة كبرى في القاهرة والشام، يُحضره العلماء والأمراء.
العثمانيون: أطلقوا عليه "المولد الشريف" وجعلوه عطلة رسمية، يقرأ فيه كتاب المولد مع الأناشيد والمدائح.
المغرب والأندلس: احتفل المغاربة بالمولد منذ العصور المرابطية والمرينية، وما زالوا يُقيمون حلقات الذكر والمدائح في هذه المناسبة.
---
سابعاً: شهادات العلماء والمؤرخين
ابن كثير عن الملك المظفر: "كان يعمل المولد الشريف ويحتفل به احتفالًا هائلًا، وكان رجلًا صالحًا."
المقريزي: "كان من أعظم مواسم الفاطميين موسم المولد النبوي."
السيوطي: "فيه اجتماع على الذكر والصدقة ومدح الرسول ﷺ، وهذه كلها أعمال صالحة."
---
الخاتمة
يتضح مما سبق أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مشروع وجائز بل مستحب إذا خلا من المحرمات، لأنه تعبير عن الفرح برحمة الله، وتجديد للمحبة لرسول الله ﷺ، وتعليم لسيرته العطرة. وقد أقرّه جمهور العلماء عبر القرون، واحتفلت به الأمة الإسلامية في مختلف الأقطار.
فالاحتفال بالمولد ليس بدعة ضلالة، بل بدعة حسنة، وهو وسيلة مباركة لرفع ذكر النبي ﷺ امتثالًا لقوله تعالى:
﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: 4].
وبذلك يبقى المولد النبو
ي الشريف مناسبة جامعة للأمة، تُظهر وحدتها على محبة رسولها وتعظيمه، وتعلن للعالم أن محمداً ﷺ سيظل رحمة للعالمين إلى قيام الساعة.