يُعَدّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من أبرز المناسبات الإسلامية التي يترقبها المسلمون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ففي الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام، تُضاء المساجد بالأنوار، وتُقام المجالس التي تُتلى فيها آيات القرآن الكريم، وتُذكر فيها السيرة العطرة لسيّد الخلق محمد ﷺ. إنّه يوم أشرقت فيه الدنيا بنور الهداية، واندحرت فيه ظلمات الجاهلية، يومٌ غيّر مجرى التاريخ، وأخرج البشرية من عبادة الأصنام إلى عبادة ربّ الأنام.
لكن يبقى السؤال: هل الاحتفال بالمولد النبوي مشروع في الإسلام؟ وما هي صور التعبير الصحيحة عنه؟
---
أصل الفرح بمولد النبي ﷺ
الفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أصل راسخ في كتاب الله وسنة نبيه. قال تعالى:
> ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58].
وقد فسّر ابن كثير وغيره الرحمة هنا بالنبي محمد ﷺ، لأنه رحمةٌ للعالمين كما قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107].
فإذا كان الله تعالى أمرنا بالفرح ببعثة نبيه، فإنّ الاحتفال بالمولد النبوي هو صورة من صور هذا الفرح المشروع.
---
أقوال العلماء في الاحتفال بالمولد
الإمام جلال الدين السيوطي (911هـ)
قال في كتابه حسن المقصد في عمل المولد:
> "أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مولده ﷺ ثم يُبسط لهم الطعام وينصرفون، هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها."
الإمام ابن حجر العسقلاني (852هـ)
> "أصل عمل المولد بدعة، لم تنقل عن أحد من السلف، ولكنه مع ذلك مشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرّى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة."
الإمام الشوكاني (1250هـ)
> "لا شك أن محبة النبي ﷺ مطلوبة شرعاً، وإظهار الفرح بذكر مولده من أوضح دلائل المحبة."
الإمام أبو شامة المقدسي (665هـ)
> "ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده ﷺ من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مشعر بمحبة النبي وتعظيمه في قلب فاعله وشكراً لله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله."
---
الرد على من حرّموا المولد النبوي
ظهرت بعض التيارات المتشددة – وعلى رأسها الفكر الوهابي – التي حرّمت الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وعدّته بدعة ضلالة. غير أنّ هذا القول يخالف إجماع جمهور العلماء عبر القرون. فقد بيّن الأئمة أن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة، وما كان فيه إحياء لذكر النبي ﷺ، وتعريفٌ بسيرته، وحثٌّ على اتباعه، فهو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها المسلم.
---
صور صحيحة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف
يمكن للمسلمين أن يحتفلوا بهذه المناسبة العطرة بطرق شرعية بعيدة عن المبالغات والمخالفات، ومن أبرزها:
1. قراءة القرآن الكريم: فهو أعظم ما يُتلى في مثل هذه المجالس.
2. ذكر الله تعالى والصلاة على النبي ﷺ.
3. إلقاء دروس في السيرة النبوية لتعريف الأجيال الجديدة بأخلاقه وجهاده ورسالته.
4. إنشاد المدائح النبوية التي تذكّر بالمقام الشريف.
5. إطعام الطعام للفقراء والمساكين شُكراً لله تعالى على نعمة بعثته.
6. التواصي بالخير وصلة الأرحام، فهي من مكارم الأخلاق التي دعا إليها النبي ﷺ.
---
الاحتفال بالمولد في العالم الإسلامي
يُلاحظ أن مختلف البلدان الإسلامية تحتفل بهذه الذكرى بطرق متنوّعة:
في المغرب العربي تُقام المواكب وتُلقى الأذكار الجماعية وتُوزع الحلوى.
في مصر تنتشر حلقات الذكر وتوزيع حلوى المولد.
في تركيا وبلاد الشام تُقام المجالس العلمية والمدائح الدينية.
في إندونيسيا وماليزيا يُنظم المسلمون مسيرات ضخمة ومظاهر احتفالية تعبر عن محبتهم لرسول الله ﷺ.
---
الخاتمة
إنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليس مجرد عادة اجتماعية، بل هو تعبير عن محبة صادقة للنبي ﷺ، وشكر لله تعالى على نعمة بعثته. وقد أقرّ جمهور العلماء استحبابه، ورأوا فيه فرصة لتجديد الإيمان، وتعليم الأجيال سيرة النبي العطرة، وربط القلوب بحبّه والاقتداء بهديه.
فالواجب أن يكون احتفالنا بالمولد مناسبةً لتقوية الصلة برسول الله ﷺ، وإحياء سنته، ونشر رحمته في الأرض.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.